[b] المدينة العطشى أن تكون دائماً مفتوحة الورود.. كما النائم[/b]
[b]يرتب أحلامه ويمشط شعرها ويخرجها في أبهى ثيابها ليحملها الحداة بين[/b]
[b]مشرقي الضحك والبكاء ـ شعراً ـ وحيث يكون حلم الصادي ماءً،[/b]
[b]والعاشق أصابع طويلة توسد أنفاسه، والمستوحش غناء.. كذلك[/b]
[b]الشاعر يجمع نتف الكلام والوجوه والأحزان فيحلم بالقصيدة.. تلك[/b]
[b]القصيدة الماء والأنثى وبلاد بسماء زرقاء ودروب معشبة الحواف.[/b]
[b]المدينة العطشى.. بقبائل من الشعراء.. بسلالات من العصاة...[/b]
[b]وبدكاكين محشوة بالسكاكر والشعر.. وحيث لن تكون حيادياً إذ تذكر[/b]
[b]ـ سلمية ـ ولن تستطيع أن تلبي تلك المدينة دعوة شغفك دون أن[/b]
[b]تسحب أبناءها الشعراء.. والعكس جائز.. يحضر كل واحد من هؤلاء[/b]
[b]الملاعين سلة من الغبار والبيوت الصفراء والأشجار الكالحة والعطش..[/b]
[b]ويقول لك أحضرت إليك معي مدينتي؟![/b]
[b]يتداخل المعنى.. هل المدينة صنعت هؤلاء.. أم هم من صنعها.. وما سر[/b]
[b]تلك المواصفات القياسية لتلك القبيلة الشعرية.. أشكال متعددة[/b]
[b]للغناء، والمقامات لا راد لتفريخها إلا الله.. ولكل ربابه.. ولكن[/b]
[b]مشكوكين بخيط الشعر كحبات المسبحة.[/b]
[b]الأسماء كثيرة، وربما نحتاج لسجل مواز لما يسمى بدائرة النفوس لإحصاء[/b]
[b]أفراد تلك القبيلة.. وربما يهوي حكم القيمة بركام من الأسماء،[/b]
[b]وتذري ريح الذائقة بتلال من التجارب.. ولا يبقى في سماء المدينة إلا[/b]
[b]بضع نجوم.. بعضها أشبع درساً وتكريماً وبعضها شغلها الشعر حتى عن[/b]
[b]مريديه.[/b]
[b]منذر الشيحاوي أحد هؤلاء الباقين في سماء المشهد الشعري لهذه المدينة[/b]
[b]بلا أدنى شك.. ولربما سيكون اسمه جنباً إلى جنب مع الماغوط وعلي[/b]
[b]الجندي وفايز خضور وسليمان عواد وآخرين..[/b]
[b]ذلك الرجل المديد الألم والناحل الأمل.. ولا نتكلم عنه كلامنا عن[/b]
[b]تجربة بحد ذاتها ولكن عن ظاهرة بأبعاد المعنى، اسمه في مهرجان البلدة[/b]
[b]السنوي الشعري البائس مهرجان آخر.. حيث يغدو المركز ـ المقفر[/b]
[b]ثقافياً ـ وعلى امتداد العام محجاً، ففي اليوم الذي يكون فيه[/b]
[b]تمتلئ القاعة قبل ساعات ويكون الواقفون أضعاف الجالسين، وقلما[/b]
[b]تلتقي بـ «سلمي» لم يحفظ شيئاً من مرارة أبي عصام وسخريته،[/b]
[b]مجموعته الأولى «طفريات» نفدت كاملة بطبعتها الثالثة وهذا الشيء[/b]
[b]وحده وسط الكساد العظيم لسوق الكتاب الشعري خصوصاً في جل ـ بلاد[/b]
[b]العرب ـ أمر جدير بالوقوف عنده وقفة متأمل.[/b]
[b]منذر الشاعر رجل خمري ـ حتى إفراغ آخر كأس، وكأن عقيدة افراغ[/b]
[b]الكؤوس لديه هي حالة متعوب عليها، ابتداء من علاقته بالزجاجة[/b]
[b]مروراً بالقصيدة والحبيبة كفردوس مفقود انتهاء بفكرة الوجود[/b]
[b]كحالة معيشة، الكاسات المنداة الغبشة هي صلة وصله الحميمة مع[/b]
[b]الجمال وبالضرورة مع القصيدة، فعلى الطاولة يفرط في الهذيان، حتى[/b]
[b]لتظن أن ذلك الرجل لا يعرف من الكلام إلا ما وزن وأبكى وجرح، وهو[/b]
[b]ليس جرح المؤذي، بل جرح الطبيب الذي تسبق أفكاره يديه بحثاً عن[/b]
[b]الداء.[/b]
[b]ولا يمكننا أن نعرج على شعريته الحقة دون حكها على حجر وصفه الخمر[/b]
[b]وحالات النشوة، والتي جاري بها الأقدمين بلا أدنى مبالغة، مستحضراً[/b]
[b]أفكاراً لم يسبقه إليها أحد.. جاعلاً من جلسات الشراب مدينة فاضلة[/b]
[b]وفردوساً مفقوداً:[/b]
[b]اسقني ما شئت حتى الخدر[/b]
[b]خمرة مصنوعة في سقر[/b]
[b]من كروم أرضعت عنقودها[/b]
[b]بلهيب النار لا بالمطر[/b]
[b]فرّ بالكأس لكون عاشق[/b]
[b]لم يلوث بنزاع بشري[/b]
[b]وفي مكان آخر يكون الخمر بيئة اجتراح المعاجز، ومكان الخرافة[/b]
[b]الجميلة واللا معقول الفاتن، فيقول حيث لا يسعنا التعليق:[/b]
[b]من لي بكأس يستفز جليسا[/b]
[b]ويدير بالخمر اللذيذ رؤوسا[/b]
[b]كأس إذا دارت على جلاسها[/b]
[b]صار الرئيس براحها مرؤوسا[/b]
[b]هي خمرة ديمقراطية أبعادها[/b]
[b]لا فرق فرعون هنا أو موسى[/b]
[b]حتى سليمان الحكيم إذا انتشى[/b]
[b]برحيقها لم يحترم بلقيسا[/b]
[b]وهو بلا شك كسياق معرفي شعري سليل مدرسة عريقه وذات جذور بعيدة[/b]
[b]في التراث، وإن كان نواسي الكأس والهوى إلا أن الرومي الساخر[/b]
[b]الهجاء والمتألم من طول قامة الأذى في عصره هو الأب الشرعي لنص منذر[/b]
[b]الشيحاوي.. وفي سياق التراث نعبر على العديد من الأسماء وصولاً إلى[/b]
[b]الصافي النجفي والشاعر الأردني الكبير مصطفى وهبي التل «عرار»[/b]
[b]والذي كانت شعريته الحقة في مدوناته الراشحة بالمرارة والتهكم[/b]
[b]والتي كانت سبباً لمصادرة نصه الذي لم ينصع يوماً لأحد ولم يستطع حلاق[/b]
[b]الكلام بموسه ومقصه أن يشذب شيئاً من شعثان شعريته.[/b]
[b]منذر يدور دائماً في حلقة النص الذي لا يتحمل مسؤوليته إلا[/b]
[b]صاحبه.. لذلك نجد أن ذاك النص لم يصل بمعناه الشامل إعلامياً إلى[/b]
[b]مريديه، هذا إضافة إلى بنية شخصيته العبثية التركيب، وذلك[/b]
[b]الانصياع العجيب للقصيدة بمعناها المطلق، حيث إن لحظة الكتابة هي[/b]
[b]المعنى والمبنى لديه وما يليه يكون من المتممات.[/b]
[b]سنحاول أولاً أن نراه في البورتريه الشخصي الذي رسمه لنفسه، فهو[/b]
[b]ذلك الصعلوك الهارب من مكان وزمان مختلفين عما نحن فيه.. كائن[/b]
[b]نافر ومنطلق لم تلوثه رتابة الحياة ولم تلو عقله روح ولا مادة،[/b]
[b]يزهو بالقدوم غريباً ومغرباً ويفرح بالرواح غريباً ومغترباً:[/b]
[b]أنا جاهلي الطبع لم[/b]
[b]تكبح فلاسفة جماحي[/b]
[b]مازلت بالعراف محـ[/b]
[b]ـتكماً وفي رمي القداح[/b]
[b]ما زلت أحمل في شرا[/b]
[b]ييني كريات التسكع في البطاح[/b]
[b]من غربتي القصوى أتيـ[/b]
[b]ـت لغربتي القصوى رواحي[/b]
[b]هذا الخارجي الطبع والخارجي الروي، لا تشغله حاله عن الغوص في[/b]
[b]اليومي حتى القاع، تفاصيل حياة سكان هذا القاع شغله الشاغل،[/b]
[b]الفقر.. عدوه الأعدى يقلب أسبابه ويمزج الساخر بالجارح ويتماهى[/b]
[b]المبهج بالمؤلم، الجاد بالهازل، ولا يوفر جهداً في مهاجمة من يرى أنه[/b]
[b]السبب في هذا الحال.. سارقي لقمته وسارقي فرحه من مالكي رأس[/b]
[b]المال حتى مالكي العباد.. حربة الكلام مسلولة دائماً والطعن خلساً:[/b]
[b]يا نافخاً من تخمة كرشا[/b]
[b]سبحان من يعطي ولايخشى[/b]
[b]ياعملة ضاعت ملامحها[/b]
[b]لا طرة تبدو ولا نقشا[/b]
[b]تباً لأمعاء وصاحبها[/b]
[b]من لحمنا ودمائنا تحشى[/b]
[b]واللافت عند منذر هو هذه المواربة في تحصين الفكرة جيداً من المقص..[/b]
[b]فيعمد إلى استحضار حالة الحيوان الناطق، وإذا جاز التعبير فهو ـ[/b]
[b]بيدبي ـ في بعض نصه، أي يعيد تراث مخاتلة الرقيب الذي عمد إليه[/b]
[b]بيدبا الفيلسوف في كليلة ودمنة، فنرى الهر والفأر والضبع[/b]
[b]والعقرب كائنات ناطقة تشكو وتتألم وترى بعينها مالا يراه البشر[/b]
[b]الأسوياء مضمناً وعلى لسانها أفكاره المؤلمة والنبيلة، ويوصلها إلى[/b]
[b]القارئ بمختلف مستوياته فيكون الضحك معقوداً على راية البكاء. في[/b]
[b]قصيدته وصية عقرب على فراش الموت يبدأ كبيرها بسرد تفاصيل حياته[/b]
[b]وحياة قومه، ويتكلم عن الظلم الواقع على بني جنسه من بني البشر[/b]
[b]الأشد فتكاً وسماً، ويوسع بعدها الدائرة لتصبح القضية أبعد مرمى[/b]
[b]وتغدو إنسانية بمعناها الكبير:[/b]
[b]أعزائي العقارب سوف نحيا[/b]
[b]ونمضع رقبة الباغي انتقاما[/b]
[b]بنو الإنسان أسوأ خلق ربي وأخطر كائن يلد الحماما[/b]
[b]عصوا رب السماء بكل أمر[/b]
[b]وما احترموا الطبيعة والنظاما[/b]
[b]وحين يضيق خناق الشر، وتذوي فسحة الكلام، يلجأ شاعرنا إلى الغيب[/b]
[b]ـ وحبذا لو كان جاداً في ملاذه ـ فيخاطب الباري كآخر الحلول بتذلل[/b]
[b]المتصوف، حيث لا يجد من يشتكي إليه جور الزمان وأزلامه، وما غدا[/b]
[b]عليه حال المواطن ـ الموظف ـ من فقر وفاقه وكيف أن أسباب الغنى[/b]
[b]المرجوة كاليانصيب والسفر إلى بلاد النفط هي أقسى من الفقر نفسه:[/b]
[b]إله العالمين وأنت جاهي[/b]
[b]تعير ظروفنا بعض انتباه[/b]
[b]حنانك غلقت أبواب رزق[/b]
[b]بوجه موظف، ضاوٍ وواهي[/b]
[b]رجونا اليانصيب فما ربحنا[/b]
[b]سوى عض الأصابع والشفاه[/b]
[b]وصحنا: واخليج فلم يلب[/b]
[b]عقال في الخليج أخو رفاه[/b]
[b]في هذه العجالة، والحديث عن مجموعتين منشورتين هما /طفريات وآخ/ كما[/b]
[b]أسلفنا، لن نستطيع أن نلم إلا باليسير اليسير من تجربة هذا[/b]
[b]الشاعر، ففي أدراجه تقبع أكداس من القصائد والعشرات من[/b]
[b]المجموعات التي حال بينها وبين القراء ظرف مادي وآخر أكثر[/b]
[b]بأساً!!؟؟ ويقيني أن تجربة منذر الشيحاوي تحتاج لكتاب خاص يحيط بها[/b]
[b]ويضعها في سياقها الحقيقي نقداً وتدقيقاً.. حيث ستكون لدينا[/b]
[b]معطيات تكشف بنية نصه وسياقه المعرفي، ويكون الموضوع المهم هو ربط[/b]
[b]النص بتلك الشخصية المرهونة أبداً للشعر.. واستقراء هذا الشكل[/b]
[b]من الكتابة والذي يكون عادة مرآة صادقة لمرحلة وبشر وظرف معيش.[/b]
[b]ولن أقول عن مادتي هذه سوى أنها إضاءة على هذا الشاعر وليست[/b]
[b]دراسة حقيقية عنه، وإذ نتكلم عن شاعر من هذا الطراز، فإننا[/b]
[b]نتكلم عن جماهيرية عجيبة لنص ممنوع أو غير مرغوب به في أحسن الحالات.[/b]
[b]عبد الله ونوس[/b]
[b]مع حبي [/b]
[b]وقريبا ترقبواااا طفريات لمنذر الشيحاوي[/b]